الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية: قوله: {سنّة} نصب على المصدر، وقال الفراء نصبه على حذف الخافض، لأن المعنى كسنة، فحذفت الكاف ونصب ويلزمه على هذا أن لا يقف على قوله: {قليلًا}، ومعنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب واستأصلها الهلاك فلم تلبث بعده إلا قليلًا، وقوله: {أقم الصلاة} الآية، هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة، فقال ابن عمرو وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور: {دلوك الشمس} زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، و{غسق الليل} أشير به إلى المغرب والعشاء، {وقرآن الفجر} أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل {لدلوك الشمس} حين زالت فصلى بي الظهر» وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال: «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم: {دلوك الشمس} غروبها، والإشارة بذلك إلى المغرب، و{غسق الليل} اجتماع ظلمته، فالإشارة إلى العتمة، {وقرآن الفجر} صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا إلى الظهر والعصر، والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات، وهما من جهة اللغة حسنان، وذلك أن الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال، وآخره هو الغروب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكًا، لأنها في حالة ميل، فذكر الله {الصلوات} التي في حالة الدلوك وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في {غسق الليل}، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن أيدالك الرجل امرأته يريد أيميل بها إلى المطل في دينها فقال له الحسن نعم إذا كان ملفجًا، أي عديمًا، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]ومن ذلك قول الشاعر: الرجز: يروى براح بكسر الباء، قال أبو عبيدة الأصمعي وأبو عمرو الشيباني ومعناه براحة الناظر يستكف بها أبدًا لينظر كيف ميلها وما بقي لها، وهذا نحو قول الحجاج: [الرجز] وذكر الطبري عن ابن مسعود أنه قال: دلكت براح يعني براح مكانًا. قال: فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم، وإن كان من كلام راوٍ فأهل الغريب أعلم بذلك، ويروى أن البيت الأول: بفتح الباء على وزن قطام وحذام، وهو اسم من أسماء الشمس، وغسق الليل اجتماعه وتكاثف ظلمته، وقال الشاعر: المديد: وقال ابن عباس: {غسق الليل} بدؤه، ونصب قوله: {وقرآن} بفعل مضمر تقديره واقرأ قرآن، ويصح أن ينصب عطفًا على الصلاة، أي وأقم قرآن الفجر، وعبر عن صلاة الصبح خاصة بالقرآن لأن القرآن هو عظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها، ويصح أن ينصب قوله: {وقرآن} على الإغراء وقوله: {إن قرآن الفجر كان مشهودًا} معناه ليشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه السلام: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره، وعلى القول بذلك مضى الجمهور، وذكر الطبري حديثًا عن ابن عسكر من طريق أبي الدرداء، في قوله: {كان مشهودًا} قال محمد بن سهل بن عسكر يشهده الله وملائكته، وذكر في ذلك الحديث أن الله تعالى ينزل في آخر الليل، ونحو هذا مما ليس بالقوي، وقوله: {ومن الليل} {من} للتبعيض، وقتًا من الليل أي وقم وقتًا، والضمير في {به} عائد على هذا المقدر ويحتمل أن يعود على القرآن وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق، لكن جرى مضافًا إلى الفجر، و{فتهجد} معناه: فاطرح الهجود عنك، والهجود النوم، يقال هجُد يهجُد بضم الجيم هجودًا إذا نام، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل] ومنه قول الحطيئة: [الطويل] وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث، ومثله {فظلتم تفكهون} [الواقعة: 65] معناه تندمون، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي انبساط النفس وسرورها، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك، فالمعنى وقتًا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود: التهجد بعد نومة، وقال الحجاج بن عمرو إنما التهجد بعد رقدة، وقال الحسن: التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة، وقوله: {نافلة لك} قال ابن عباس وغيره: معناه زيادة لك في الفرض، قالوا: وكان قيام الليل فرضًا على النبي صلى الله عليه وسلم.قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله: {أقم الصلوات} الآية. وقال مجاهد: إنما هي {نافلة} للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقربًا أشرف من نوافل أمته، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث، وإما أن تحط بها خطاياهم، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة، كنصراني يسلم وصبي يحتلم، وضعف الطبري قول مجاهد. وقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} عزة من الله عز وجل لرسوله، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه السلام، والحديث بطوله في البخاري ومسلم، فلذلك اختصرناه، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال: «أنا سيد، ولد آدم ولا فخر» و{عسى} من الله واجبة، و{مقامًا} نصب على الظرف، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف، فيذهب لذلك، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار، فمعناه الاقتضاب والاختصار. لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».قال القاضي أبو محمد: وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها، أو يقال إن كل مقام منها محمود، قال النقاش: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات، شفاعة العامة، وشفاعة السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر، والمشهور أنهما شفاعتان فقط، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت: المقام المحمود هو أن الله عز وجل يجلس محمدًا معه على عرشه، وروت في ذلك حديثًا، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد، ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا.قال القاضي أبو محمد: من أنكر جوازه على تأويله.{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}.ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه {ربِّ} أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص، ثم اختلفوا في تعيينه، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: أراد {أدخلني} المدينة {وأخرجني} من مكة، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم، وقال أبو صالح ومجاهد: {أدخلني} في أمر تبليغ الشرع {وأخرجني} منه بالأداء التام، وقال ابن عباس: الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله، أصوب، وقرأ الجمهور: {مُدخل} و{مُخرج} بضم الميم، فهو جرى على {أدخلني وأخرجني} وقرأ أبو حيوة وقتادة وحميد، {مَدخل} {ومَخرج} بفتح الميم، فليس بجار على {أدخلني} ولكن التقدير: أدخلني فأدخل مدخل، لأنه إنما يجري على دخل، والصدق هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح، كما تقول رجل صدق أي جامع للمحاسن، وقوله: {واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} قال مجاهد وغيره: حجة، يريد تنصرني ببيانها على الكفار، وقال الحسن وقتادة يريد سعة ورياسة وسيفًا ينصر دين الله، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر الدين، فروي أن الله وعده بذلك ثم أنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته، وقوله: {وقل جاء الحق} الآية، قال قتادة: {الحق} القرآن، و{الباطل} الشيطان، وقالت فرقة: {الحق} الإيمان، {والباطل} الكفر، وقال ابن جريج: {الحق} الجهاد، {والباطل} الشرك، وقيل غير ذلك، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما نطوى فيه، {وزهق} الكفر بجميع ما انطوى فيه، و{الباطل} كل ما لا تنال به غاية نافعة. وقوله: {كان زهوقًا} ليست {كان} إشارة إلى زمن مضى، بل المعنى كان وهو يكون، وهذا كقولك كان الله عليمًا قادرًا ونحو هذا، وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها. اهـ. .قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {سُنَّة مَنْ قد أَرسلْنا} قال الفراء: نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر، أي: يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا.وقال الأخفش: المعنى: سَنّها سُنَّةً.وقال الزجاج: انتصب بمعنى {لا يلبثون} وتأويله: إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم.قوله تعالى: {أقم الصلاة} أي: أَدِّها {لِدُلوك الشمس} أي: عند دُلوكها.وذكر ابن الأنباري في اللام قولين.أحدهما: أنها بمعنى في.والثاني: أنها مؤكِّدة، كقوله: {رَدِفَ لكم} [النمل: 72].وقال أبو عبيدة: دُلوكها: من عند زوالها إِلى أن تغيب.وقال الزجاج: مَيْلها وقتَ الظهيرة دُلوك، ومَيْلها للغروب دُلوك.وقال الأزهري: معنى الدُّلوك في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إِذا زالت نصف النهار: دالكة، وإِذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالين زائلة.وللمفسرين في المراد بالدُّلوك هاهنا قولان.أحدهما: أنه زوالها نصف النهار.روى جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعِموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» ؛ وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري.قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إِلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {وقرآن الفجر}، فهذه خمس صلوات.والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدُّلوك إِلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دَلَكَ النجم: إِذا غاب؛ قال ذو الرمة:وتقول في الشمس: دلكتْ بَرَاحِ، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفَّه على حاجبه ينظر إِليها، قال الشاعر: فشبهها بالمريض [في] الدَّنَف، لأنها قد همَّت بالغروب كما قارب الدَّنِف الموت، وإِنما ينظر إِليها من تحت الكف ليعلم كم بقي لها إِلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفِّه.فعلى هذا، المراد بهذه الصلاة: المغرب.فأما غسق الليل، فظلامُه.وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال.أحدها: العشاء، قاله ابن مسعود.والثاني: المغرب، قاله ابن عباس.قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيانَ وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إِلى غسق الليل.والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن.قوله تعالى: {وقرآنَ الفجر} المعنى: وأقم قراءة الفجر.
|